النشاط والنفوذ الايراني في قارة افريقيا

هذا الكتاب لقاء في مركز المستقبل للأبحاث استضاف الأستاذة فاطمة بنداري، الباحثة المتخصصة في الشؤون الأفريقية، حيث ألقت الضوء على جهود إيران لنشر “التشيع” في غرب أفريقيا، وتحديداً في دولة السنغال، كحالة قامت الباحثة بزيارتها ميدانياً مرتين خلال العام الجاري للاطلاع على الأنشطة الإيرانية الدينية والاجتماعية والثقافية التي تقوم بها إيران عبر مؤسسات وجمعيات وروابط مختلفة.

السياسة الإيرانية وأفريقيا

وبوجه عام، تبدو القارة الأفريقية محورية بالنسبة لتحركات السياسة الإيرانية الخارجية، إذ تعتبر إيران أن الشمال الأفريقي هو إرث الدولة الصفوية، فيما يُعتبر شرق القارة مهم جداً بالنظر لوجود الممرات المائية والبحرية ولذا يوجد أسطول بحري لإيران بالقرب من مضيق باب المندب، كما تقيم علاقات طهران علاقات قوية مع إريتريا وجيبوتي والسودان. وفي جنوب القارة، ثمة علاقات تجارية متنامية بين إيران وأنجولا وموزمبيق وجنوب أفريقيا، كما يتواجد في دولة جنوب أفريقيا 20 مركزاً للشيعة، تتنوع ما بين المساجد والحوزات والمؤسسات التعليمية الكبيرة.

وتؤكد الباحثة أن البعد الديني “المذهبي” يتضح في سياسة إيران تجاه معظم أنحاء القارة، فنشر المذهب الشيعي يعد هدفاً رئيسياً، إذ تتواجد إيران في مناطق أغلب سكانها من المسلمين، بينما تهمل منطقة وسط القارة، والتي تتميز بوجود أغلبية للمسيحيين، حيث لا تتدخل إيران بقوة في وسط القارة رغم البعثات التبشيرية المنتشرة هناك، بل وتغفل مثلاً ما يدور في جمهورية أفريقيا الوسطى من صراعات دينية تدور بين المسلمين والمسيحيين.

أما بالنسبة لمنطقة غرب أفريقيا، تشير “بنداري” إلى أن إيران “الثورة” توجهت إلى هذه المنطقة تحديداً وأولت لها جهوداً خاصة، لأنها تمثل حزاماً إسلامياً كبيراً؛ واستفادت إيران من خصائص محددة في الإقليم لتدعيم علاقاتها مع دوله، وذلك لأن إقليم غرب إفريقيا يمثل كتلة إسلامية في القارة الأفريقية، حيث الإسلام هو الدين الرسمي لأغلبية السكان، حيث يقدر عدد سكان في هذا الإقليم بنحو 257 مليون نسمة، بينهم 161 مليون نسمة من المسلمين غالبيتهم الكبرى من السنة. ويصل عدد السكان المسلمين في العديد منها ما يفوق نسبة 95% من إجمالي السكان مثل السنغال ومالي وجامبيا، ويصل عددهم في غينيا 85%، وفي النيجر 80%.

وإذا ما أُضيف لهذا البعد الديني الأهمية الاستراتيجية الحيوية لمنطقة غرب أفريقيا، لوضحت أسباب اختيار إيران لهذه المنطقة لنشر المذهب الشيعي، ولدولة السنغال خصوصاً باعتبارها أرضاً مختارة بدقة لهذا الهدف.

لماذا غرب أفريقيا؟

وتحدد الباحثة مجموعة من العوامل قادت إلى تعزيز إيران لوجودها في منطقة غرب أفريقيا، من أبزرها:

1- المكانة الاستراتيجية لهذا الإقليم في التجارة الدولية، ومحاولة إيجاد موطئ قدم على الممرات المائية.

2- يمثل هذا الإقليم من الناحية الاقتصادية مسرحاً للتنافس الدولي، حيث وعبور المنتجات المعدنية والنفطية، المتميزة بالنقاء، ورخص الأسعار، وسهولة الشحن.

3- الاستفادة من مميزات هذا الإقليم في علاقاته الدولية والإقليمية؛ ومن أن الإسلام يمثل دين الأغلبية به، وهو ما قد يعطي ثقلاً لإيران في المحافل الدولية.

4 ـ اشتراك دول المنطقة في عدة قواسم مشتركة سياسية (تجمع الإيكواس) وثقافية (الفرنكفونية)، وانفتاح الحدود، وسهولة العبور من دولة إلى أخرى؛ وهو ما يسهل عمل أي مؤسسات وتنظيمات في دول غرب أفريقيا.

وبشكل عام، فقد بدأت إيران حركة نشـر المذهب الشيعي في السنغال مع تعيين الإمام موسى الصدر (1928م ـ 1978م) لمريده الشيخ عبد المنعم الزين، مرشداً دينياً للمنتسبين للمذهب الشيعي من أبناء الجالية اللبنانية في السنغال، والتي بدأت هِجرتها إلى السنغال لأغراض تجارية واقتصادية، فانطلق “الزين” في عام 1969 لنشر المذهب الشيعي في أواسط الشعب السنغالي مع استقباله بعض المثقفين السنغاليين ذوي الخلفيات الصوفية مثل شيخ توري، والأخوين: سيدي الأمين أنياس، وأحمد الخليفة أنياس، حيث ثار لدى هؤلاء الرغبة في الاقتداء بما تروجه إيران من نموذج “ثوري إسلامي” يعمل على تحقيق حلم إنشاء الدولة الإسلامية وتحكيم المرجعية الإسلامية في المجتمع. ولئن كان فريق من هؤلاء، لم يصل به الأمر إلى حد اعتناق مذهب التشيُّعِ، إذ لم يتجاوز تأثُّرهم بحدث الثورة الإيرانية حدود الاستلهام الفكري؛ فإن فريقاً آخراً وصل به الحال إلى اعتناق المذهب الشيعي وتغيير هويته المذهبية.

ولا يمكن حصر أعداد التجمعات الشيعية في غرب أفريقيا على وجه الدقة بسبب غياب أدوات إحصائية قوية في معظم دول هذه المنطقة، كما أنه لم يعرف قبل حركة “التشيع الإيراني” وجود كثافة شيعية، حيث لم تعرف المنطقة “التشيع” إلا من خلال الجاليات اللبنانية التي تنسق معها إيران لنشر المذهب.

قنوات نشر المذهب الشيعي في غرب أفريقيا

ثمة عدة عوامل ساعدت إيران على التوغل النسبي في بعض دول غرب أفريقيا، وخصوصاً السنغال ونيجيريا، فعلاوة على أن إيران تعتبر نشر “التشيع” من مبادئ الثورة كما يظهر في بعض نصوص دستورها بشكل ضمني كما يتضح في المواد من 152 إلى 155 بدستور إيران، فإن طغيان التصوف في السنغال قرب كثيراً بين قيادات هذه التيارات الصوفية وإيران، حيث التشابه بين وجود مرجع شيعي وبين شيخ الطريقة الصوفية وحيث أوجه التشابه في المناسبات والأعياد وبعض الطقوس الدينية. كما أن فكرة التسامح الديني تسود بين السواد الأعظم من سكان أفريقيا، بل وحكوماتها التي تميل إلى العلمانية، وهو ما ساعد إيران على إنشاء تجمعات ومؤسسات اجتماعية وتعليمية تعمل على نشر المذهب الشيعي.

أما عن أدوات إيران الأكثر فاعلية في محاولة نشر مذهبها “الشيعي” في غرب أفريقيا، خصوصاً في السنغال، فيمكن إيجازها في الآتي:

1 ـ الجاليات اللبنانية: فعلى سبيل المثال كان “عبد المنعم الزين” اللبناني الأصل هو أول من ساهم في التواصل مع بعض الطرق الصوفية وأقنع البعض باقتناع المذهب الشيعي. ويتواجد في العاصمة السنغالية، داكار، أكبر تجمع سكني وتجاري للجالية اللبنانية التي باتت تشكل لوبياً قوياً في السنغال.

2 ـ الطرق الصوفية: تواصلت إيران بشكل رسمي وغير رسمي مع العديد من الطرق الصوفية في غرب أفريقيا، ومن أشهرها: التجانية، والمريدية، والقادرية، فأتباع هذه الطرق يقدرون بالملايين، ولا تلعب قيادات هذه الطرق دوراً كبيراً في الشؤون الدينية فقط، بل يوازي ذلك أدوار اقتصادية وثقافية وسياسية. وتساعد الطرق الصوفية على نزع فتيل مشاعر الإحساس والظلم التي تحملها الجماهير تجاه قصور وعجز الدولة عن خدمتهم، وتساهم في تهدئة التوترات السياسية، وتنزع الدولة لهذه الأسباب إلى التواصل مع الطرق الصوفية.

وقد دخلت إيران من هذا الباب تحديداً حيث دعمت بعض هذه الطرق بالمال وبإنشاء بعض المؤسسات التعليمية. وعلى سبيل المثال قام الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رافسنجاني، بزيارة السنغال في عام 1994، وتبرع شخصياً لترميم “مسجد توبة”، كما أنشأت إيران مؤسسة (والفجر) ومؤسسة (مزدهر) و(جامعة المصطفى العالمية) التي تمارس أدوراً اجتماعية لا تعليمية فقط، حيث تنفق إيران على الملتحقين بها والذين يزورن مدينة قم الإيرانية، وهي جامعة لها 12 فرعاً تنتشر في أنحاء أفريقيا.

3 ـ السفارات الإيرانية: حيث تقوم كافة سفارات إيران في غرب أفريقيا عبر ملحقيها الثقافيين بمهمة ضمنية تهدف لنشر “الثورة” و”المذهب الشيعي” عبر طباعة وإصدار العديد من الكتب، وفتح المجال أمام تدريس المذهب الشيعي عبر المشاركة في مؤسسات طوعية اجتماعية.

ومن هنا يمكن القول إن هناك ثلاث قنوات إيرانية أساسية لنشر المذهب الشيعي في غرب أفريقيا، وعلى رأسها نيجيريا وغانا ومالي وساحل العاج والسنغال، أولها قناة دينية تتمثل في بناء المساجد، وثانيها قناة اجتماعية تتمثل في بناء المؤسسات الخيرية، ثالثها قناة تعليمية تتمثل في بناء المدارس والجامعات لبناء الأجيال القادمة.

السنغال نموذجاً

وفقاً للزيارة الميدانية التي قامت بها الباحثة إلى السنغال وزيارتها لبعض المؤسسات والشخصيات المتعاونة مع إيران، فقد نشأ في السنغال حزب سياسي يسمى “حزب الله السنغالي” على يد أحمد خليفة إنياس؛ وهو حزب يستلهم من الثورة الإيرانية برنامجه وأيديولوجيته لكن ما لبث أن تبخرت أيديولوجية الحزب، وخفتت نزعته الإسلامية، وأصبح مؤسسه يساير الحكومات المتعاقبة في ظل رئاسة عبدو ضيوف ثم الرئيس عبدالله واد؛ حيث واد في ولايته الأولى مستشاراً خاصاً؛ وفي ولايته الثانية وزيراً للدولة مكلفا بمشروع بناء عاصمة جديدة بالسنغال. ومع ذلك فإن وصول شخص ذو ميول إيرانية أو شيعية جدير بالطرح في سيناريوهات مستقبل الجالية الشيعية بالسنغال.

من جهة أخرى تسجل الباحثة تولي شخصية سنغالية شيعية الانتماء المذهبي، وذات أصل لبناني؛ هو عالم المحيطات والناشط البيئي البارز، علي حيدر، منصب وزير الصيد والاقتصاد البحري في حكومة الرئيس مكي سال.

كما قامت إحدى الشخصيات المعروفة، وهو السيد إبراهيم باجان، في شهر سبتمبر 2009 بإثارة ضجة كبيرة في المجتمع السنغالي حين دعا عبر القنوات التلفزيونية المحلية الشباب إلى التشيع عن طريق تزيين زواج المتعة لهم؛ وإمكانية الزواج بعقد مؤقت لبضع ساعات؛ الأمر الذي رأى فيه سائر فئات المجتمع تهديداً لمؤسسة الأسرة، ودعوة إلى توسيع دائرة البغاء في المجتمع تحت غطاء ديني. وحين أصر الرجل على الإدلاء بتصريحات صادمة في القنوات التلفزيونية السنغالية وفي وسائل الإعلام الأخرى؛ ضبطه عناصر من الأمن الوطني السنغالي فور خروجه من أحد البرامج؛ (وكان قد اعترف في هذا البرنامج بممارسة زواج المتعة مع سنغاليات)، وتم التحقيق معه.

وقد مثلت هذه الحادثة حينذاك فرصة للمواجهة الفكرية بين قوى التشيع والتيار الإسلامي، لاسيما السلفي منه على وجه خاص، في مقابلات وبرامج تلفزيونية تابعها ملايين من المجتمع؛ مما مكنهم من الوقوف بصورة أوضح على الفكر الشيعي وعلى الشيعة.

وتكشف هذه الحادثة كذلك عن حقيقة تخوفات الدولة السنغالية من التمدد الشيعي، إذ تتخذ السلطات موقفاً رادعاً ضد قوى التشيع في المجتمع السنغالي إذا استشعرت بخطر ما يمكن أن يهدد السلم والتجانس المجتمعي، أو يتناقض مع مرتكزات استقرار المجتمع. ومنذ ذلك الحين والقوى السلفية تسعى جاهدة لمواجهة نشاطات الشيعة في السنغال؛ إلى درجة سعي بعض رموزهم إلى محاولة التقرب والتصالح مع قوى التصوف للوشاية بالشيعة؛ والتحالف معهم للحيلولة دون استمرارية ممارسة أنشطتهم الدعوية داخل المجتمع السنغالي.

وعلاوة على ذلك، فقد مرت علاقات السنغال وإيران بمنحنيات صعود وهبوط، وذلك وفق أنشطة الإيرانيين داخل السنغال، فقد قطعت السنغال رسمياً علاقاتها بإيران مرتين، أولاهما عقب الثورة الإيرانية مباشرة؛ والثانية في أواخر عام 2009، وهو ما يترجم توجساً وتربصاً معيناً يتصرف بموجبه الطرف السنغالي مع الطرف الإيراني، بحذر وخوف من جهة؛ وببرجماتية وترجيح للمصالح السياسية والاقتصادية على الخلافات الفكرية من جهة أخرى.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Search this website
ترجمة - Translate